فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحادثة انشقاق القمر جاء ذكرها في مطلع سورة القمر، علي أنها قد وقعت بالفعل تحديا لكفار ومشركي قريش، وتأييدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة تكذيبهم لنبوته ولرسالته، ولم يرو عن أحد منهم تكذيب تلك الواقعة التي نسبوها تارة لتعرضهم هم لعملية سحر، وتارة أخري لتعرض القمر للسحر، حتي هيئ لهم أنه قد انشق بالفعل مما يفهم منه تأييدهم لوقوع تلك المعجزة، وإن حاولوا التقليل من شأنها بنسبتها إلي السحر...!!، ثم عاودوا نفي فرية السحر بأنفسهم وذلك بقول نفر من عقلائهم-كما جاء في روايات الواقعة: لئن كان قد سحرنا فإنه لا يمكن أن يكون قد سحر معنا المسافرين خارج مكة؛ فتسارعوا إلي مداخل المدينة في انتظار الركبان القادمين من السفر، وعند سؤالهم شهدوا بأنهم في الليلة نفسها التي شاهد فيها أهل مكة تلك الواقعة رأوا هم كذلك انشقاق القمر إلي فلقتين تباعدتا عن بعضهما البعض لعدة ساعات ثم التحمتا، فآمن من آمن وكفر من كفر. ولذلك تقول الآيات في مطلع سورة القمر:
{اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر} (القمر: 1- 5).
كذلك روي حادثة انشقاق القمر بصورة متواترة عدد غير قليل من كبار صحابة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) من أمثال عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وجبير بن مطعم (رضي الله تبارك وتعالى عنا وعنهم أجمعين)، ولا يمكن أن تجتمع كلمة هؤلاء جميعا علي باطل، وهم من أهل التقي والورع (ولا نزكي علي الله أحدا). وقد حقق أحاديث انشقاق القمر عدد كبير من أئمة علماء الحديث في مقدمتهم البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وبن ماجة، وأحمد، والبيهقي، وغيرهم كثير مما يجزم بوقوعها، ومن هنا فإننا نرفض قول بعض المفسرين إن الحادثة من إرهاصات الآخرة انطلاقا من استهلال السورة بقول الحق تبارك وتعالى:
اقتربت الساعة وانشق القمر؛ وهؤلاء قد لا يعلمون أن عمر الأرض التي نحيا عليها يقدر بنحو خمسة آلاف مليون سنة (علي أقل تقدير)، وأن عمر مادة كل من الأرض والكون المحيط بها يقدر بنحو عشرة آلاف مليون سنة (علي أقل تقدير)، وأن بعثة المصطفي صلى الله عليه وسلم كانت منذ أربعة عشر قرنا فقط، ونسبة هذا التاريخ إلي ملايين السنين التي مضت من عمر كل من الأرض والكون يؤكد قرب نهاية العالم. ولذلك يروي عنه (عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم) قوله الشريف: بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي. وهي قولة حق خالص، وإعجاز علمي صادق لأنه لم يكن لأحد في زمانه صلى الله عليه وسلم أدني تصور عن قدم الأرض إلي مثل تلك الآماد الموغلة في القدم؛ وهذا كاف للرد علي الذين قالوا إن في استهلال سورة القمر بالقرار الإلهي اقتربت الساعة وانشق القمر إيحاء بأن انشقاق القمر مرتبط باقتراب الساعة، بمعني أنها إذا جاءت انشق القمر، لأن المعجزة قد وقعت فعلا علي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يشير إلي ذلك وجود شق كبير بالقرب من القطب الجنوبي للقمر علي الوجه الذي لا يري من فوق سطح الأرض يزيد طوله علي 225 كيلو مترا ويدعمه عدم تماثل نصفي القمر الحالي، ويؤكده وصف القرآن الكريم لنهاية القمر بابتلاع الشمس له (لا بانشقاقه) وذلك كما جاء في قوله تعالى:
فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر (القيامة: 7- 9).
ويأتي العلم في قمة من قممه مؤكدا تباعد القمر عن الأرض بمعدل ثلاثة سنتيمترات في كل سنة مما يشير إلي حتمية دخوله في مجال جاذبية الشمس فتبتلعه، وإن كان ذلك- كغيره من إرهاصات الآخرة سوف يتم بالأمر الإلهي: كن فيكون، وليس بالسنن الدنيوية التي يبقيها لنا ربنا تبارك وتعالى لإثبات إمكان وقوع الآخرة؛ بل حتميتها.
وبعد فراغي من الإجابة علي سؤال السائل الكريم وقف بريطاني مسلم عرف نفسه باسم داود موسي بيدكوك (DavidMusaPidcock).
وبمنصبه كرئيس للحزب الإسلامي البريطاني، واستأذن في إمكان إضافة شيء إلي ما قلته في إجابتي فأذنت له بذلك فقال: إن هذه الآية كانت مدخلي لقبول الإسلام دينا، فقد شغفت بعلم مقارنة الأديان، وأهداني صديق مسلم نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم فأخذتها منه شاكرا وتوجهت بها إلي مسكني، وعند تصفحها لأول مرة فوجئت بسورة القمر فقرأت: {اقتربت الساعة وانشق القمر} ثم توقفت متسائلا: كيف يمكن للقمر أن ينشق ثم يعود ليلتحم؟ وما هي القوة القادرة علي إعادته إلي سيرته الأولي؟ فتوقفت عن القراءة وكأن هذه الآية الكريمة قد صدتني عن الاستمرار في ذلك...!!
ولكن لعلم الله تعالى بمدي إخلاصي في البحث عن الحقيقة أجلسني أمام التلفاز لأشاهد حوارا بين مذيع بريطاني يعمل بقناة التليفزيون البريطاني B. B. C واسمه جيمس بيرك (JamesBurck) وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين، وجري عتاب علي الإسراف المخل في الإنفاق علي رحلات الفضاء في الوقت الذي تتعرض جماعات بشرية عديدة لأخطار المجاعات، والأمراض، وانتشار الأمية بين البالغين، ولمختلف صور التخلف العمراني والعلمي والتقني.
ووقف علماء الفضاء مدافعين عن مهنتهم بأن الإنفاق علي رحلات الفضاء ليس مالا مهدرا لأنه يعين علي تطوير تقنيات تطبق في مختلف المجالات الطبية والصناعية والزراعية، ويمكن أن تعود بمردودات مادية وعلمية كبيرة، وفي غمرة هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل علي سطح القمر علي أنها كانت من أكثر هذه الرحلات كلفة فقد تكلفت عشرات المليارات من الدولارات. فسأل المحاور: هل كان كل ذلك لمجرد وضع العلم الأمريكي علي سطح القمر؟ وجاءت الإجابة بالنفي، وبأن الهدف كان دراسة علمية لأقرب أجرام السماء إلينا؛ فسأل المحاور: ألم يكن من الأجدي إنفاق تلك المبالغ الطائلة علي عمارة الأرض؟ وجاء الجواب بأن الرحلة أوصلتنا إلي حقيقة علمية لو أنفقنا أضعاف هذا المبلغ لإقناع الناس بها ما صدقنا أحد...!!
فسأل المحاور: وما هذه الحقيقة العلمية؟ فكان الجواب أن هذا القمر كان قد انشق في يوم من الأيام ثم التحم بدليل وجود تمزقات طويلة جدا وغائرة في جسم القمر، تتراوح أعماقها بين عدة مئات من الأمتار وأكثر من الكيلو متر وأعراضها بين نصف الكيلو متر وخمسة كيلو مترات وتمتد إلي مئات من الكيلو مترات في خطوط مستقيمة أو متعرجة. وتمر هذه الشقوق الطولية الهائلة بالعديد من الحفر التي يزيد عمق الواحدة منها علي تسعة كيلو مترات، ويزيد قطرها علي الألف كيلو متر، ومن أمثلتها الحفرة العميقة المعروفة باسم بحر الشرق (MareOrientalis).
وقد فسرت هذه الحفر العميقة باصطدام أجرام سماوية بحجم الكويكبات (ImpactofAsteroid-SizedObjects).
أما الشقوق التي تعرف باسم شقوق القمر (RimaeorLunarRilles) فقد فسرت علي أنها شروخ ناتجة عن الشد الجانبي (TensionalCracks) أو متداخلات نارية علي هيئة الجدد القاطعة، ولكن أمثال هذه الأشكال علي الأرض لا تصل إلي تلك الأعماق الغائرة، ومن هنا فقد فسرت علي أنها من آثار انشقاق القمر وإعادة التحامه.
يقول السيد بيدكوك: حين سمعت هذا الكلام انتفضت من فوق الكرسي الذي كنت أجلس عليه أمام التلفاز، وتساءلت: معجزة تحدث لمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل ألف وأربعمائة سنة يثبتها العلم في زمن التقنية الذي نعيشه بهذه البساطة، وبهذا الوضوح الذي لا يخفي علي عالم في مجال علم الفلك اليوم، فلابد أن يكون القرآن حقا مطلقا وصادقا صدقا كاملا في كل خبر جاء به؛ وعلي الفور عاودت القراءة في ترجمة معاني القرآن الكريم، وكانت هذه الآية التي صدتني في بادئ الأمر عن الاستمرار في قراءة هذا الكتاب المجيد هي مدخلي لقبول الإسلام دينا.
ولا أستطيع أن أصف لكم وقع هذه الكلمات، ووقع النبرة الصادقة التي قيلت بها علي كل الحضور من المسلمين وغير المسلمين فقد هزت القلوب والعقول، وأثارت المشاعر والأفكار، ولم أجد ما أقوله أبلغ من أن أردد قول الحق تبارك وتعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد (فصلت: 53). اهـ.

.تفسير الآيات (9- 17):

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقالوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقدم أمره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتولي عنهم تهديدًا لهم، وصرح بما أراد من أمر الساعة لما دعا إلى ذلك من تقدم ذكرها، ولأنها أشد هول يهددون به، وبيانًا أن الخلق ما خلق إلا لأجلها لأنها محط الحكمة، وختم بعسرها على الكافرين، تمم ذلك التهديد بعذاب الدنيا ردعًا لأهل الغلظة الموكلين بالمحسوسات، فذكر عسر يوم كان على الكافرين فيها، فقال مهددًا لقريش بجعل القصة مثلًا لهم في إهلاكهم وفي أمر الساعة من حيث إنه كما أهلك أهل الأرض في آن واحد بما أرسله من الماء فهو قادر على أن يهلكهم في آن واحد بالصيحة، وكما صرف هذا التصريف الذي ما سمع بمثله في الإهلاك فهو قادر على أن يصرفه في الإحياء عند البعث على وجه ما عهد مثله تنبت فيه الأجساد وتحيا فيه العباد، جوابًا لمن كأنه قال: هذا ما يوعدونه بعد الموت، فهل لهم عذاب قبله دال على كمال القدرة: {كذبت} أو أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل، وأنث فعلهم تحقيرًا لهم وتهوينًا لأمرهم في جنب قدرته.
ولما كان ما كان من تصميمهم عليه وعزمهم على عدم الانفكاك عنه لكونه جبلة مستغرقًا لجميع ما بعدهم من الزمان، وكانوا قد سنوا سنة التكذيب فكان عليهم مع وزرهم وزر من أتى بعدهم، وكان ما قبلهم من الزمان يسيرًا في جنب ما بعده عدمًا، فلذلك ذكر الظرف من غير حرف جر لأنه مع أنه الحق أعظم في التسلية فقال: {قبلهم} أي في جميع ما سلف من الزمان ومضى بعضه بالفعل وبعضه بالقوة لقوة العزم: {قوم نوح} مع ما كان بهم من القوة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار.
ولما ذكر تكذيبهم إشارة إلى أنه جبلة لهم جحدوا بها النبوة رأسًا فلاحظ لهم في التصديق للحق فلا يفترق حالهم بالنسبة إلى أحد من الناس كان من كان، فلذلك سبب عن هذا المطلق قوله: {فكذبوا عبدنا} أي على ما له من العظمة نسبة إلينا لكونه لم يتعبد لغيرنا قط مع تشريفنا إياه بالرسالة، فكان تكذيبهم فرًا مما دخل في تكذيبهم المطلق الشامل لكل ما يمكن تكذيبه وهو ميد (؟) {وقالوا} مع التكذيب أيضًا زيادة على تغطية ما ظهر منه من الهداية: {مجنون} أي فهذا الذي يظهر له من الخوارق من أمر الجن.
ولما كان إعلاء الصوت على النبي كائنًا من كان عظيم القباحة جدًا زائد الفظاظة فكيف إذا كان مرسلًا فكيف إذا كان من أولي العزم فكيف إذا كان على سبيل الإنكار عليه، فكيف إذا كان على صورة ما يفعل ممن لا خطر له بوجه، قال بانيًا للمجهول إشارة إلى تبشيعه من غير نظر إلى قائل وإيذانًا بأن ذلك لم يكن من أكابرهم فقط بل من كبيرهم وصغيرهم: {وازدجر} أي أعملوا أنفسهم في انتهاره وتوعده وتهديده وانتشر ذلك في جميعهم بغاية ما يكون من الغلظة كفاله عن الرسالة ومنعًا له عنها، والمعنى أنهم قالوا: إنه استظهر عليهم بالجنون.
ولما طال ذلك منهم ومضت عليه أجيالهم جيلًا بعد جيل حتى مضى له من إنذارهم أكثر مما مضى من الزمان لأمة هذا النبي الحاتم إلى يومنا هذا، وأخبره الله أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن معه، تسبب عن ذلك الدعاء بالراحة منهم، فلذلك قال صارفًا وجه الخطاب إلى صفة الإحسان والربوبية والامتنان إيذانًا بأنه أجاب دعاءه ولبى نداءه: {فدعا ربه} أي الذي رباه بالإحسان إليه برسالته معلمًا له لما أيس من أجابتهم: {أني مغلوب} أي من قومي كلهم بالقوة والمنعة لا بالحجة، وأكده لأنه من يأبى عن الملك الأعظم يكون مظنة النصرة، وإبلاغًا في الشكاية إظهارًا لذل العبودية، لأن الله سبحانه عالم بسر العبد وجهره، فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل، وكذا الإبلاغ فيه {فانتصر} أي أوقع نصري عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه.
ولما استجاب له سبحانه، سبب عن دعائه قوله، عائدًا إلى مظهر العظمة إعلامًا بمزيد الغضب الموجب دائمًا للاستيعاب بالغضب: {ففتحنا} أي تسبب عن دعائه أنا فتحنا فتحًا يليق بعظمتنا {أبواب السماء} كلها في جميع الأقطار، وعبر بجمع القلة عن الكثرة لأن عادة العرب أن تستعيره لها وهو أرشق وأشهر من بيبان، وسياق العظمة يأبى كونه لغيرها.
ولما كان المراد تهويل أمر الماء بذكر حاله التي كان عليها حتى كأن المحدث بذلك شاهده جعلت كأنه آية فتحت بها السماء فقال: {بماء منهمر} أي منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب عظمًا وكثرة، ولذلك لم يقل: بمطر، لأنه خارج عن تلك العادة، واستمر ذلك أربعين يومًا {وفجرنا} أي صدعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأرسلنا {الأرض عيونًا} أي جميع عيون الأرض، ولكنه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثم البيان، وإفادة لأن وجه الأرض صار كله عيونًا.
ولما كان الماء اسم جنس يقع على الأنواع المختلفة كما يقع على النوع الواحد، وكان قد ذكر ماء السماء والأرض، سبب عن ذلك قوله: {فالتقى الماء} أي المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال: {على أمر} ولما تقررت هذه العظمة لهذه الواقعة، فكان ربما ظن أنه صار جزافًا، وزاد على الحد المأمور به، أشار إلى أنه بالنسبة إلى عظمته في غاية الحقارة فقال: {قد قدر} أي مع كونه مقدورًا عليه في كل وقت بغاية السهولة قد وقع تقديره في الأزل، فلم يستطع أن يزيد على ذلك قطرة فما فوقها ولا أن يهلك غير من أمرناه بإهلاكه، وأشار بالتخفيف إلى غاية السهولة في ذلك سبحانه.
ولما ذكر ما علم منه بقرينة ما ذكر من خرقه للعادة، وأن إجابته لدعوته عليه الصلاة والسلام، ذكر تمام الانتصار بنجاته فقال: {وحملناه} أي بما لنا من العظمة على متن ذلك الماء بعد أن صار جميع وجه الأرض مجرى واحدًا، وحذف الموصوف تهويلًا بالحث على تعرفة بتأمل الكلام فقال: {على ذات} أي سفينة ذات {ألواح} أي أخشاب نجرت حتى صارت عريضة {ودسر} جمع دسار وهو ما يشد به السفينة وتوصل بها ألواحها ويلج بعضها ببعض بمسمار من حديد أو خشب أو من خيوط الليف على وجه الضخامة والقوة الدفع والمتانة، ولعله عبر عن السفينة بما شرحها تنبيهًا على قدرته على ما يريد من فتق الرتق ورتق الفتق بحيث يصير ذلك المصنوع، فكان إلى ما هيأه ليراد منه وإن كان ذلك المراد عظيمًا وذلك المصنوع.